الجمعة ، 9 ذو القعدة ، 1445
section banner

لئلا يذوب حزب "العدالة" تحت الشمس!

لئلا يذوب حزب "العدالة" تحت الشمس!

لئلا يذوب حزب "العدالة" تحت الشمس!

ربما كانت هزيمة حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا مفاجئة للبعض في تركيا وخارجها، غير أنها لم تكن كذلك لمن ينظر من منظار سنن التغيير وقواعد العمران؛ فخيوط الأسباب قد تضافرت لتنسج تلك الحقيقة المُرة التي كثيراً ما ينكرها المتحمسون على غير تمحيص. 

فحزب العدالة والتنمية حل ثانياً، لأول مرة منذ عقدين من الزمان، وكانت النتائج بعد فرز 100% من الأصوات، كالتالي:

الشعب الجمهوري 37.76%                                       العدالة والتنمية 35.48%

حزب الرفاه الجديد 6.19%                        الديمقراطية والمساوات 5.70%

 الحركة القومية 4.99%                                                           حزب الجيد 3.77%                                                 

حزب النصر 1.74%                                                   حزب السعادة 1.09%

حزب هدى بار 0.55%

خاض الناس في الحديث عن أسباب تلك الهزيمة؛ فداروا حول: الاقتصاد، والمقاطعة، والموقف من غزة، واختيارات المرشحين، بل إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفسه شاطرهم إبراز تلك الأسباب، وهو من اعترف بهذه النقاط الأربع في معرض حديثه عن وصول رسائل الناخبين إلى حزبه، الذي برأيه، هو بحاجة إلى مراجعة شاملة، قائلاً: "إما ان نرى الأخطاء في أنفسنا ونصححها، أو سنذوب مثل الجليد تحت الشمس!"

وإذ جئنا للتفاصيل؛ فلا شك أن للاقتصاد حظه الوافر من تلك الأسباب؛ فالتضخم وصل هذا الشهر لـ68.5% مع رفع نسبة الربا إلى 50% وهو رقم كارثي في النظام الرأسمالي، فضلاً عن كونه محرّماً بطبيعة الحال. ورغم زيادة الأجور بنسبة 100% في تركيا إلا أن المعاناة لم تزل مستمرة، حيث بلغت متوسط ما تحتاجه الأسرة في إسطنبول على سبيل المثال إلى نحو 55 ألف ليرة تركية، وفقاً لتقديرات رسمية.

وما من شك أن طبيعة الانتخابات البلدية تكون فيها رغبات الناخبين مطلبية معيشية، وحيث أخفق الحزب الحاكم في تحقيق كثير من وعوده في الصعيد الاقتصادي في الآونة الأخيرة؛ فإن الأنظار يمكن أن تتجه إلى البديل الذي لم تتم تجربة أدائه منذ فترة طويلة، ما جعل البيض يتراص في سلته، حيث سيطر الحزب المعارض على بلديات المدن التي تشكل 64% من سكان تركيا، و80% من وارداتها الاقتصادية.

خيبة الأمل حيال السياسة التركية فيما يتعلق بالعدوان على غزة، هو عنوان بارز لأمور أسفرت عن إحجام نحو 4.5 مليون ناخب يصوتون تقليدياً للعدالة والتنمية عن الذهاب للتصويت، وهو ما حول النتيجة لصالح الشعب الجمهوري الذي استفاد من ذلك، علاوة على وجود 7 مليون شاب (11% من الناخبين) قد ولدوا في ظل حكومات العدالة والتنمية، واتجه معظمهم عبر تعليم علماني، وإعلام هابط، ومغريات متاحة إلى من يستجيب لغرائزهم ورغباتهم، في ظل فشل ذريع من الحزب الحاكم في احتوائهم واحتضانهم؛ فصوتت غالبيتهم الساحقة ضده.

ينضاف إلى ذلك، أسباب أخرى ثانوية لكنها مهمة جداً في حسم الأمور لصالح حزب الشعب الجمهوري، أبرزها: 

سيطرة حزب الشعب الجمهوري على وسائل التواصل الاجتماعي، في ظل إخفاق شديد من الحزب الحاكم عن مجاراة الحزب وكتائبه الإلكترونية المؤدلجة أو المرتزقة. علاوة على سيطرته المعتادة على الإعلام التقليدي. 

سأم الشباب ومتوسطي العمر من رتابة أداء الحزب الحاكم، ورغبتهم في التغيير، مع جهل معظمهم لمآلات هذا التغيير، نظراً لعدم درايتهم بماضي الحزب المعارض الاستبدادي والفاسد، ولا ببرنامجه الاقتصادي الأعرج. 

خيبة أمل القطاع المحافظ من الشعب التركي من تراجع الحزب الحاكم عن بعض قيمه الراسخة، ومحاولاته إرضاء القطاع الليبرالي، وتغلب هذا التيار الأخير في الحزب على التيار المحافظ، ما أسهم في زيادة المقاطعة من جهة، وفي التصويت لحزب الرفاه الجديد الصاعد، والذي يتبنى خطاباً أكثر وضوحاً وجاذبية في "إسلاميته". 

تأثر الحزب القومي بمرض زعيمه دولت بهشلي، في ظل عدم وجود بديل يكافئه في الكاريزما، ما أدى لتراجع هذا الحزب أيضاً، وجريان مائه في جدول حزب الشعب الجمهوري. 

ما تقدم هو معظم ما خاض فيه الناس في تفسير ما جرى من تراجع كبير للحزب الحاكم، وصعود أكبر للحزب اليساري العلماني المتطرف، لكن في الحقيقة، هناك أخطر من كل هذا، مما لم يعالجه الحزب الحاكم قط، ولا يبدو بكل أسف أنه ماضٍ في إصلاحه. 

مكمن المشكلة عائد إلى أن حزب العدالة والتنمية أو التيار المحافظ برمته لم يتمكن خلال ربع قرن كاملة، أتيح له فيه لم يحصل لغيره أبداً في البلدان الأخرى، من الحرية، والسيادة النسبية للقانون، من تكوين ما يسميه ابن خلدون بـ"العصبية" التي تسنده، والتي تجعله متمكناً حقيقة من مقاليد الحكم وإدارة الدولة. ليس هذا فحسب، بل إن الأمر يزداد سوءًا بمرور الأيام، فالكتلة المتدينة التي كان من المفترض أن تكون في حال الزيادة، وتقوم بإنشاء محاضن تربوية ممتدة في طول البلاد وعرضها، تجعل من إقامة دولة إسلامية حقيقة أو غاية لم تكن في دائرة اهتمام القائمين على المتدينين في الحزب وخارجه بدرجة كافية، ما جعل الحزب الحاكم بعد أن أزاح العسكر، ثم تيار الخدمة، من التأثير الأكبر في السياسة التركية، وفي أكثر اللحظات قدرة وتمكناً في الظاهر يتخلف إلى حد يبدو فيه ضعيف جداً وبالغ  الهشاشة، بما يجعله لا يمسك بأي أداة من أدوات القوة الحقيقية التي يفترض أنها بين يديه!

الآن: 

حزب الشعب الجمهوري يحتج على عدم فوزه في البلديات التي لم يفز فيها بحجة تزوير الحكومة للنتائج، وإرهابيي حزب الديمقراطية والمساواة (الجناح السياسي لـPKK) يحدثون الشغب ويضرمون النيران ويمارسون العنف ضد الدولة، لأن القانون سحب من فائزهم الإرهابي مقعده لتورطه في دعم العنف والإرهاب (قبلت اللجنة العليا للانتخابات الطعن المقدم من الفائز المحرض بعد عمليات العنف مباشرة).. واليوم وبالأمس يساء للمحجبات والمتدينين والمتدينات في الطرقات لأن الصوت العلماني المتطرف عالٍ..

بصراحة: 

من حق هؤلاء أن يتجاسروا إلى هذا القدر، لأن الكتلة المسلمة غير موجودة، أو لنقل ضعيفة، وإذا أحنيت ظهرك فلا تلومن من امتطاه وساقك. لنقل أكثر: إن كل إنجازات العدالة والتنمية التي ارتعشت يده كثيراً في تنفيذها منقوصة سيكون من اليسير جداً هدمها كلها في الشهر الأول لحكم حزب الشعب الجمهوري، وسيقف العالم – كل العالم – له مصفقاً مؤيداً. إن نضال السماح بالحجاب يمكن أن يذوب كالجليد تحت شمس الحزب المعارض لو حكم، وللعسكر إن عادوا، وما انقلاب 2016 منهم ببعيد.

مؤسف، أن المراجعات ستدور حول طريقة الحملة الانتخابية، أو كيفية إدارة الاقتصاد الربوي الممحوق دون تفكير في "أسلمة تركيا" على النحو المرجو والمأمول. لقد هاجم العلمانيون اللاجئين وحملوهم كل مصيبة، فانصاعت الحكومة، لكن الاقتصاد، ويا للمفارقة لم يتحسن بل ازداد سوءًاً.

وهاجموا خطة الرئيس التركي لتقليل الربا، سعياً لتصفيره؛ فانصاعت الحكومة، وتدفق المال الملوث من دول همها – كل همها – أن تغرق تركيا لا أن تنتشلها، وبلغت نسبة الربا رقماً مجنوناً جداً (50%)، فلم تتخلف سنن الله: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ ، فانتزعت البركة وحل الفقر والتراجع الاقتصادي. ولم يكن الحل أبداً هنا، حتى لو كان حلاً مؤقتاً يسبق الانتخابات في نظر متخذيه؛ فلا يصلح أبداً أن يؤمن به المتدينون كحل لإنقاذ البلاد والعباد!

إن كثيرين لم يغضبوا على فاتح أربكان حين فض تحالفه مع الحزب الحاكم في الانتخابات الأخيرة، كونه لم يخذله في موضع نصرة، وإنما لأنه أراد أن يقفز من السفينة المعيبة مبكراً، وقد يكونون محقين فيما ذهبوا إليه، كذلك؛ فإن من قاطعوا بسبب غزة أو لفساد بعض كوادر الحزب الحاكم ممن كانوا دون مستوى تطلعات المتدينين، صحيح أنهم قووا شوكة الحزب العلماني المتطرف بقرارهم هذا، لكنهم أطلقوا صرخة في الوقت المناسب قبل أن تحدث الكارثة بأربع سنوات كاملة، يمكن لأولي النهى في صدر الحركة المتدينة أن تدركه، لو لم يكن السهم قد انطلق من القوس، وباتت "العدالة والتنمية" في مرحلة "الهرم" الذي لا علاج له، مثلما يقرر ابن خلدون عن نهايات الدول. 

العقلاء يدركون أنه مهما كانت أخطاء الحزب الحاكم وأداؤه؛ فلن يبلغ انحدار حزب الشعب الجمهوري لو حكم تركيا – لا قدر الله – والعقلاء يدركون حكم إنجاز العدالة والتنمية قياساً بإخفاقات أكرم إمام أوغلو وأترابه، لكن للأسف لا تدار العملية الانتخابية بالعقل وإنما بالإعلام الطاغي، والمال الدافق، وكلاهما تستأثر به الكتلة العلمانية، وترفدها دول ثرية من الخارج. لدى المعارضة ما يفوق 80% من قدرة الإعلام التقليدي والحديث، ولدى "توسياد" (اتحاد شركات هوامير الاقتصاد العلماني والدونمي) ما يفوق قدرة الحكومة التركية ذاتها ومنظمة "موصياد" المحافظة، ولدى الشباب الجديد الذي ربته المدارس والجامعات العلمانية توق إلى التغيير، وربما سئم الوجوه الكاريزمية الحاكمة في أنقرة دون دراية منه لقيمتها وعطائها الكبير. فمن يحل المشكلة؟ من يحلها دون حلم؟ دون عقيدة؟ دون قضية؟ دون تربية وإعداد؟ 

 

إذا أدرك العقلاء ذلك، تداركوا أنفسهم وبلدهم، وتأثيرها في العالم كله.. أو لا – لا قدر الله – فلينتظروا الدجال الشاب كرئيس مستبد قادم لتركيا.