شاطئ جزيرة كيوس، ويظهر في الصورة الساحل التركي. المصدر: مهاجرنيوز
شاطئ جزيرة كيوس، ويظهر في الصورة الساحل التركي. المصدر: مهاجرنيوز

في سجن كيوس اليوناني، يعيش نحو 10 مهاجرين خلف القضبان بعد أن تمت إدانتهم بتهم تتعلق بتسهيل ومساعدة الهجرة غير الشرعية. فريق مهاجر نيوز زار السجن وتحدث مع المهاجرين عن ظروف اعتقالهم ومحاكمتهم وحياتهم خلف القضبان.

موسى أبوزعنونة، موفد مهاجرنيوز إلى ليسبوس (اليونان)

في حي سكني هادئ يطل على جبال جزيرة كيوس، يقع السجن الرئيسي للجزيرة، وهو مبنى قديم تلتصق جدرانه بساحات المنازل المجاورة مما يعقّد من مهمة العثور عليه أو رؤية ساحاته الداخلية. يُسمح للزوار بالجلوس في الجزء الإداري من السجن، والذي تفصله بوابة حديدة كبيرة عن عنابر السجناء. جلس فريق مهاجر نيوز مع أحد موظفي السجن في مكتب صغير، بانتظار قدوم المهاجرين الذين نُوديَ على أسمائهم بمكبرات الصوت.

وإجابة على سؤال بخصوص عدد المهاجرين المسجونين، أجاب الموظف الذي رفض ذكر اسمه "مهاجرون؟ لا نسجن أي مهاجرين هنا. بمجرد خروجهم من المحكمة، يصبحون بين أيدينا"، في إشارة إلى أن المهاجرين تتم معاملتهم كباقي المجرمين في السجن.

للمزيد >>>> "يريدون تجريم كل من يساعد المهاجرين".. محاكمة 24 عاملاً في المجال الإنساني في اليونان

"كانت أول مرة أرى البحر في حياتي والآن أنا سجين لكوني قبطان سفينة مهاجرين.. هذا جنون"

بصوت منخفض وابتسامة خجولة، ألقى محمد غ. بالتحية وأومأ برأسه مشيراً بأنه مستعد للإجابة على الأسئلة. 

يبلغ الشاب السوري 27 عاماً، وهو سجين في كيوس منذ ثلاثة أعوام، تطبيقاً لحكم بالسجن لمدة 35 عاما أصدرته بحقه محكمة ليسبوس، بعد أن وُجد مذنباً بتهمة تسهيل دخول مهاجرين من دول ثالثة إلى اليونان بشكل غير شرعي.

يقول "وصلت إلى اليونان في كانون الأول/ديسمبر 2019، بعد أن قضيت سبعة أشهر في تركيا، وكان على متن القارب 18 مهاجراً. دفعتُ 1500 يورو للمهرب، الذي تركنا وسط البحر وعاد إلى تركيا رفقة شريك له كان يقود دراجة مائية".

وفقاً لمحمد، وبمجرد نزول المهرب، بدأ المهاجرون بالارتجال ومحاولة قيادة القارب، "بدأنا نشعر بالخوف، ومعظم المهاجرين حاولوا قيادة القارب. شخصياً، كانت أول مرة أرى البحر في حياتي (كان يعيش في ريف دمشق)، ومع ذلك، وجدت نفسي أحاول قيادة القارب حالي كحالهم".

بعد عدة محاولات، وصل جميع المهاجرين بسلام إلى ليسبوس. يصف محمد هذه اللحظات قائلاً "مشينا على الأرض، وشعرت بأنني وصلت إلى بر الأمان"، لكن سرعان ما تحول الحلم إلى كابوس. يتابع "أتى رجال الشرطة، وتحدثوا معي باليونانية وبالإنكليزية، وأنا لا أتحدث إلا العربية، كنت أومئ برأسي دون أن أفهم أي شيء، وانتهى الحوار بأن قيدوني وأخذوني إلى السجن. ومنذ ذلك الحين وأنا سجين".

حاول الشاب أن يستأنف الحكم القضائي بعد عام ونصف على سجنه، لكنه رُفض، ويعيش الآن على أمل نجاح مساعي محاميه بالطعن في الحكم أمام المحكمة العليا اليونانية.

وعند سؤاله عن الحياة في السجن، انحنى محمد بجسده النحيل ليخفي تعابير وجهه، وقال "الأشهر الستة الأولى كانت صعبة، كنت في حالة إنكار شديد لكل هذا، لم أصدق أنني هنا وأن هذه ستكون حياتي لأعوام طويلة. لكن بعد ذلك، بات كل شيء عادياً، كل الأيام متشابهة. رأيت البحر مرة واحدة في حياتي، وكانت كافية لسجني 35 عاماً". 

للمزيد >>>> مخيم "مافروفوني" في ليسبوس.. "ملاذ" المهاجرين من الغرق ومن عمليات الإبعاد القسري

وفقاً لمحامي المهاجرين الذين التقى بهم فريق مهاجرنيوز، الكسندروس جورجوليس، فبالنسبة للعدالة اليونانية، "عليك فقط أن تضع يدك على دفة القارب حتى تتم إدانتك بكونك مهرب مهاجرين. لا يهم ما إذا كانت هذه نيتك من البداية أم لا، أو إذا كنت قد استفدت من هذا النشاط. إنه قانون سخيف ويجب تغييره".

لحظة إدخال أحد المتهمين إلى مبنى محكمة ميتيليني في ليسبوس.09 كانون الثاني/يناير 2023, المصدر: مهاجرنيوز
لحظة إدخال أحد المتهمين إلى مبنى محكمة ميتيليني في ليسبوس.09 كانون الثاني/يناير 2023, المصدر: مهاجرنيوز


"أخذونا من البحر إلى السجن.. لم نر أوروبا التي حلمنا بها"

عبد الله ج. 33 عاماً، وخير الدين س. 41 عاماً، ومحمد ب. 33 عاماً، ثلاثة شبان سوريين التقوا في إزمير في كانون الأول/ديسمبر 2021، قبل أن يصعدوا على متن قارب مهاجرين رفقة نحو 80 مهاجراً، بنيّة الوصول إلى إيطاليا. لكن رحلتهم لم تسر كما خطط لها، وانتهى بهم المطاف بالسجن في اليونان لمدة قد تصل إلى 20 عاماً.

يقول جلول "اتفقت أنا وخير الدين مع المهرب على ألا ندفع له أية أموال لقاء رحلة الهجرة، وذلك مقابل أن نقوم بقيادة القارب. لكن لم نكن نعلم بأننا نعرض أنفسنا لأحكام طويلة بالسجن".

للمزيد>>> خمسة قرون.. مجمل أحكام بالسجن صدرت بحق مهاجرين أدينوا بتهمة مساعدة آخرين على الدخول إلى اليونان

ووفقاً للشبان، وبعد خمس ساعات في عرض البحر، انتهى الوقود في القارب، وعندما هموا باستخدام الخزان الاحتياطي الذي تركه المهرب، تفاجؤوا بأنه مليء بالماء بدلا من الوقود، ما تركهم تحت رحمة الأمواج العالية والرياح العاتية. يتابع جلول "انقلب القارب في لحظة، ووجدنا أنفسنا في الماء وسط الظلام".

يقاطع خير الدين رفيقه "كنا نسمع الصراخ في كل اتجاه، ورأينا جثثا تطفو بجانبنا. كان لدينا طوق نجاة واحد، وبما أننا نجيد السباحة جيداً، تمسكنا ببعضنا البعض، وقررنا أن نبقى معاً".

وفقاً للشبان الثلاثة، بقوا في الماء مدة خمس ساعات، إلى أن جاء خفر السواحل اليوناني وأنقذهم. يصف خير الدين هذه الساعات "قضينا الساعات الأولى بالصلاة والدعاء، لكن في نهاية المطاف فقدنا الأمل. خلال الساعة الأخيرة، بدأ جلول ومحمد بفقدان الوعي بسبب البرد، لم يعودا قادرين على تحريك أيديهما أو أرجلهما، كنت الوحيد القادر على مواصلة السباحة، وفي الوقت ذاته كنت أحاول إيقاظهما ومساعدتهما على الطفو. وعندما رأيت قارب خفر السواحل يتوجه نحونا، بدأت بالصراخ عليهما، كنت سعيداً بأنه سيتم إنقاذنا، ولم أتخيل أنهم سينقلوننا من البحر إلى السجن، لم نر أوروبا التي حلمنا بها، حتى أنهم لم يقدموا لنا أي رعاية طبية بعد هذه الساعات في عرض البحر".

اكتفى محمد ب. بسماع شهادتي رفيقيه، وعند سؤاله عن تجربته، قال "أنا لم أقم بقيادة القارب، لكن المحكمة اعتبرتني مذنباً معهما لأن ثلاثتنا من بانياس في سوريا، ولأنني كنت معهما خلال الرحلة وعندما أنقذونا، لكنني لم ألمس دفة القارب"، وهو ما أكده المهاجران الآخران.   

بالنسبة لهؤلاء الشبان الثلاثة، قيل لهم في المحكمة إنه حُكم عليهم بالسجن لمدة 20 عاما، ولكن بعد ذلك، تفاجؤوا "على شاشة التلفاز"، بأن عقوبتهم كانت في الواقع 187 عاما بالنسبة لجلول، و126 سنة لخير الدين ومحمد، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحد الأقصى للسجن في اليونان هو 20 عاما.

للمزيد >>>> من السجن لـ142 عاما إلى معانقة الحرية.. محكمة يونانية تخفف حكم مهاجر صومالي

"جريمتنا؟ قمنا بتلقي حبل من سفينة أنقذتنا، وربطناه بسفينتنا" 

وسيم ب. 30 عاماً، ومصطفى ح. 28 عاماً، ومحمد خ. 55 عاماً، سوريان ومصري، حكم عليهم بالسجن لخمس سنوات بتهمة المساعدة في الهجرة غير الشرعية. صعد المهاجرون الثلاثة في حزيران/يونيو 2021، على متن قارب يحمل نحو 100 مهاجر آخرين، وغادروا من إزمير التركية على أساس التوجه إلى إيطاليا، لكنهم اضطروا للرسو في ميناء يوناني. يشرح وسيم "الليلة الأولى كانت صعبة جداً. كانت المرة الأولى التي أركب قارب في حياتي، وعانيت من دوار البحر، ثم علقنا في عاصفة قوية، كان الموج أعلى من السفينة، لا أزال أتذكر صوت الصراخ والرعب على القارب. وفي اليوم التالي، قرر قبطان السفينة التركي، أن يرسو قبالة ميناء يوناني، بحجة أن القارب غير مناسب لهذه الرحلة وأنه سيقابل أصدقاء للمهرب في هذا الميناء وسيعطونه قارباً آخراً. لكنه خرج ولم يعد".

وفقاً لشهادات المهاجرين، بدأوا بالاتصال على رقم الطوارئ 112، خاصة وأن حالة الطقس بدأت بالتدهور. وبعد ساعات، قدمت ثلاث سفن مدنية وأحاطت بقارب المهاجرين، وقام طاقم إحدى هذه السفن برمي حبل إلى قارب المهاجرين. يتابع محمد "كان الحبل معقوداً (في إشارة لطريقة مميزة لربط عقدة الحبال بين السفن)، كل ما قمنا به (أنا ووسيم) هو أننا وضعنا العقدة على الجزء المخصص لها على القارب. ثم سُحبنا بسرعة خيالية إلى جزيرة قريبة".

بمجرد الاقتراب من الجزيرة، قُطع الحبل بين السفينتين ووصل المهاجرون إلى الشاطئ، وهناك استقبلتهم الشرطة ونقلتهم إلى مدرسة مهجورة، لتفتيشهم وتقديم بعض الطعام لهم. يقول مصطفى "ثم ألقوا القبض علينا نحن الثلاثة، وسألونا كيف أحضرنا القارب وكم تقاضينا لقاء ذلك. أنا لم أفعل أي شيء، صعدت على ظهر القارب لأدخن سيجارة، ووقفت مع وسيم ومحمد لبعض الوقت، ولأننا تقريبا العرب الوحيدون على متن القارب (باقي المهاجرين أفغان)، تعاملوا معنا على أننا مهربون".

مئات المهاجرين يصلون إلى الجزر اليونانية في بحر إيجة (ansa)
مئات المهاجرين يصلون إلى الجزر اليونانية في بحر إيجة (ansa)


وفيما يتعلق بظروف الحياة بالسجن، اتفق المهاجرون على أنها ظروف "عادية"، لا يعانون فيها من عنف أو معاملة سيئة، لكنها تبقى تجربة "صعبة جداً" خاصة إذا ما أخذ بالاعتبار أنهم يعتبرون أنفسهم أبرياء، مشيرين إلى أنهم لم يسبق لهم وأن دخلوا سجوناً قبل ذلك ليقارنوا بين سجن كيوس وغيره.

وعن تواصلهم مع عائلاتهم، يستفيد المهاجرون من هاتف يعمل ببطاقة مسبقة الدفع في السجن، والاتصالات من هذا الهاتف مكلفة. علق مصطفى ح. عليها قائلاً "زوجتي وطفلاي يعيشون في إدلب، وكنا معتادين على محادثات الفيديو قبل أن أسجن، لكن منذ ذلك الحين، نتحدث بشكل متقطع عبر هاتف السجن، وطفلاي لا يفهمان لماذا لا يستطيعان رؤيتي أثناء المكالمة".

وقبل عودتهم إلى عنابرهم، أنزل وسيم ب. كمامته عن وجهه ووضع يديه على الطاولة المقابلة، وقال بصوت غاضب "أنا لست جاهلاً، كنت أدرس الحقوق في سوريا، وكان لدي أحلام وأفكار وأهداف لأحققها، ولسوء حظي، جبرت على سلك هذا الطريق. لكني الآن لا أفهم أي شيء مما حصل لي، لا أعرف الفرق بين الخير والشر، أو بين الخطأ والصواب. كل ما أعرفه هو أنني بريء".   

 

للمزيد