الجمعة ، 9 ذو القعدة ، 1445
section banner

مزيج الأمل والقلق مع فوز عبد البصير

مزيج الأمل والقلق مع فوز عبد البصير

"أعرفه كرجل ذو معتقد ديني ملتزم ومليء بالروح الوطنية والذي سيقف ضد أي هيمنة أجنبية في بلده الحبيب جمهورية السنغال" [فهد ياسين، المدير السابق لجهاز المخابرات والأمن الوطني الصومالي، يرسل رسالة تهنئة إلى صديقه الذي كان زميله في الدراسة وانتخب رئيسًا للسنغال]

"حزب باستيف الذي اختار بشير جوماي فاي ليكون مرشحا له بأمر من مؤسسه عثمان سونكو  حزب بناقريقياني معتدل، يدعو إلى تحرير أفريقيا من ربقة الاستعمار، له توجه اسلامي، وليسوا كبعض الشباب البنافريقانيين الذين يدعون إلى محاربة الإسلام في إفريقيا على أنه دين العرب ويروجون للوثنية، عثمان سونكو  وبشير جوماي فاي كانا مقربان من الحركات الطلابية الإسلامية والمقربة من جماعة عباد الرحمن السنية في السنغال، وشاركا في مناسبات كثيرة اسلامية لنصرة  قضايا المسلمين منها القضية الفلسطينية." [محمد الأمين سوادغو، الكاتب والباحث البوركينابي]

انتخبت السنغال رئيسها الخامس، الشاب عبد البصير (أو بشير) فاي (44 عاماً) من الجولة بنسبة كاسحة، قاربت 60% من أصوات الناخبين، بعد أن استقطب الفئة الشبابية، هو وقائده ورفيقه دربه السياسي، د. عثمان سونكو (49 عاماً)، المناضل السنغالي البارز، فحملته على الفوز متجاوزة مرشحي الدولة السنغالية العميقة، التابعة كلياً لفرنسا. 

اتهمت السلطات سونكو بتهمة أخلاقية مشينة لمنعه من الترشح؛ فاختار فاي لخلافته (على ما يبدو مؤقتاً)، فاعتقل الأخير أيضاً بتهمة تتعلق بتهديد السلام الاجتماعي، وقد أُخرج الاثنان قبل أيام من الانتخابات، وسمح لفاي بخوض الانتخابات، فقاد حملته الانتخابية لعشرة أيام فقط كانت كفيلة بتحقيق فوزه الكاسح. 

عراقيل كثيرة وُضعت أمام الرفيقين ليتخليا على حلم استقلال السنغال عن فرنسا الذي تبنياه (على الأقل اقتصادياً)، لكن مثابرتهما وأنصارهما الذين ضحوا بأرواح 60 منهم، أزهقتها السلطات السنغالية في مظاهرات حاشدة مستمرة منذ شهور، واعتقلت منها نحو 2000 متظاهر من أنصار حزب باستيف، لكن هذا العراقيل لم تحُل في النهاية دون تولي فاي رئاسة السنغال. 

وإثر الإعلان عن فوزه، بعث فاي برسائل طمأنة لأعداء السنغال الحقيقيين، في خطاب فوزه، جاء فيه: "أقول للمجتمع الدولي ولشركاء بلدنا إنّ السنغال ستحتفظ بمكانتها دائماً، وستظلّ البلد الصديق والحليف الآمن والموثوق به، لأيّ شريك سينخرط معنا في تعاون شريف ومحترم ومثمر للطرفين"، كما طمأن القوى المناهضة له في الداخل بأنه عازم على تحقيق "المصالحة الوطنية وإعادة بناء المؤسسات" بصيغة ديمقراطية وسليمة والتوزيع العادل للثروة". وعلى الفور كان الرد الفرنسي سريعاً، إذ كتب الرئيس الفرنسي ماكرون على موقع X باللغتين الفرنسية والفولانية، مهنئاً فاي، متمنياً العمل معه، والتعاون مع حكومته. 

إلى هنا، تبدو النهاية (أو بالأحرى البداية الحقيقية) سعيدة للشباب السنغالي الطامح في التخلص من ربقة عبودية لفرنسا استمرت لقرنين ونصف، حتى قبل أن تحتل قواتها هذا البلد المنكوب بالفرانكفونية إذ انتشرت تجارة العبيد من السنغال لفرنسا منذ نحو سبعة قرون، غير أن الوقائع السابقة تشي بأن الأمر لن يكون بهذه السهولة المتخيلة. 

فرنسا، التي تحكم قبضتها على الجيش السنغالي، والتي تحركه يمنية ويسرة متى أرادت، وكاد أن يشارك في حروب طاحنة مع الجيران الذين نفضوا تبعية فرنسا عنهم، في مالي والنيجر وبوركينافاسو، لو أومأت له فرنسا أن يفعل، لن يكون أداة طيعة في يد الشاب عبد البصير، والأجهزة الأمنية والاستخبارات والقضاء، شأنهم في ذلك شأن الجيش، فالحاصل أن عبد البصير قد دخل إلى القصر بجسده فقط، فيما يقع أمنه الشخصي كرئيس على عاتق أذناب فرنسا.

كما أن بلاده التي تُسمى عن ساسة باريس باسم (فرنسا الصغرى) لن يقبل اقتصادها الغارق في الفرنسية بسهولة في التحرر من النفوذ الفرنسي؛ فمئات من الشركات والبنوك الفرنسية متعددة الجنسيات العاملة في السنغال مثل بنكي جنرال سوسيتيه، بي إن بي باريبا، وشركة إراميت للتعدين، أورانج للاتصالات، نكتورانس، وغيرها، وتعتبر السنغال سابع أكبر شريك تجاري عالمي لفرنسا وثالث أكبر شريك تجاري لها في إفريقيا. وفرنسا هي أكبر مستثمر أجنبي في السنغال بإجمالي استثمارات تبلغ 1.7 مليار يورو. هذا علاوة على تحكم باريس في المرافق الحيوية في السنغال كالكهرباء والماء والوقود. 

والأخطر أن السنغال غارقة في الثقافة الفرنسية، ولدى فرنسا حضور قوي في التعليم السنغالي، وإليها تستقطب النجباء من طلبة السنغال في جامعاتها، ما يجعلها متحكمة إلى حد كبير في النخبة السنغالية. 

وعليه؛ فإن رسائل الطمأنة التي بعث بها عبد البصير قد تؤجل التفكير قليلاً في إزاحة الرجل عن سدة الحكم، لكنها لا تمنع ساسة فرنسا من التفكير في ذلك في أي لحظة. ونحن قد نتصور أن فرنسا قد تؤخذ بعنصر المفاجأة فتخسر واحدة من "مستعمراتها" السابقة، مثل بوركينا فاسو أو النيجر أو مالي، بانقلاب، مدعوم من روسيا أو الولايات المتحدة، أو حتى غير مدعوم، وينفذه ضباط "وطنيون شجعان"، لكنها أبداً لن تباغت بوصول رئيس، ينتمي إلى حزب وتيار أعلن مراراً عن عزمه وقف نزيف الانتهاب "الاستعماري" لثروات بلاده، واتخاذ سياسة متوازنة حيال دول عظمى وإقليمية. 

ثم إن فرنسا لن يطمئنها تبرج إحدى زوجتي فاي، مادامت الأخرى "شبه محجبة"، ولن يشغلها – مثلما حيّر قناة العربية – أي هاتين ستكون "سيدة السنغال الأولى"! إنما سيكون لدى أجهزة فرنسا تاريخ فاي وسونكو منذ أن كانا يحفظان كتاب الله عز وجل في الكتاتيب، وانتميا في شرخ شبابهما إلى تيار يُعد أقرب إلى "السلفية"، ونشطا من قبل في تأييد القضية الفلسطينية، رغم تغيرهما النسبي بعد الانخراط في السياسة.

الحاصل، أننا إزاء سيناريو يمكن أن يكون مشاهداً من قبل، وهو أن تكون باريس مطمئنة نوعاً ما إلى الحزب الجديد، ولم تمانع كثيراً من وجوده في سدة الحكم، ما دام ذلك سيهدئ الرأي العام السنغالي الثائر ضدها، والراغب في محاكاة ثورات وانقلابات الجيران، وأن فرنسا قد أخذت ضمانات كاملة بعدم تغير سياسة السنغال تجاهها، ما دامت واثقة من إمساكها بمفاصل الدولة السنغالية. 

أو أننا إزاء عملية إفشال متعمدة، لقتل الحلم الذي راود شعوب المنطقة من أن تتحرر من ربقة "الاستعمار" الفرنسي، وأي احتلال آخر.

 

ولكن يبقى الأمل منعقداً في أنه رغم كل ذلك، يمكن لإصلاح متدرج، وتغيير في الولاءات داخل مفاصل الدولة العميقة، وتغيير محكم للقيادات بشكل ذكي، مع سياسة اقتصادية ناجحة أن يفضي ذلك إلى تخفيف قبضة الدولة العميقة، ومن ثَم فرنسا، عن الشعب السنغالي المسلم، ولربما ساهمت الأحداث في العالم والإقليم في تحقيق ذلك.. مع ذلك، يظل الطريق شاقاً، فالله نسأل أن يحرر السنغال وسائر بلاد المسلمين، من سلطان الغاصبين.