ثقافة السفر: الإبداع والمعرفة

ثقافة 2019/11/13
...

محمّد صابر عبيد
يتّفق أكثر المشتغلين في حقول العلوم الإنسانية كافة على أنّ ثقافة السفر إحدى أبرز الثقافات وأهمّها في رفد الشخصية المعرفية والإبداعية للإنسان، فهي مصدر رئيس من المصادر التي تغذّي العقل البشري بما تستطيع الكتب أو المهارات الثقافية الأخرى من إنجازها على هذا الصعيد، ولعل فوائد السفر بحسب السلف لا تعدّ ولا تحصى وأغلب من قارب منهم هذه القضية كان يحرّض على السفر وعلى دوامه لأجل مزيد من المعرفة والوعي والتجربة والخبرة، فالماء السائل ماءٌ طيّبٌ جالبٌ للحظّ والعافية واللذّة والذوق، والماءُ الساكنُ يفقد ما تيسّر من طيبه حتى يبلغ ساحلَ العفن
كما ألمح الشاعر في أحد أبياته الشعرية، وقد قال أبو تمام “اغتربْ تتجّددِ” فلا تجدّد بلا سفر ولا يمكن لرجل ماكث في مكان واحد وهواء واحد ووجوه واحدة وحساسية واحدة بوسعه أن يكون مبدعاً أو مُنتِجاً للمعرفة التي لا تحتاج إلى شيء قدر حاجتها للتجدّد، إذ ما تلبث جعبته من الإبداع أن تنفد سهامُها في ظلّ حصار خانق لا سبيل نحو تغيير هوائه، فلا يلقى أمامه سوى اجترار ما عنده من أقوالٍ وصورٍ وخيالاتٍ حتى تزرقّ من كثرة استعمالها واستهلاكها وامتصاص
 رحيقها.
المكان الواحد مكان قاتل لأنه سيكتشف الرازحُ المقيمُ فيه -على زمن معيّن ومقدّر من الألفة والتعوّد وكثرة المصاحبة والنظر وندرة الحراك والتموّج- واحديتَه وقتامتَه وتحجّرَه، بلا طرافة ولا سيولة ولا طزاجة ولا تجدّد بعد أن يفقد كلّ هذه الصفات ويؤول إلى سيمتريّة لا حياة فيها ولا حضور، والهواء الواحد الذي يتردّدُ في أنحاء ضيّقة لا بدّ بكثرة السنوات وتدافعها وتراكم شحومها على الجسد أن يَفسدَ فلا يغذّي الرئتين بما يجب، فكيف يمكن لروح تزعم الإبداع والخلق والتحديث وهي تنام على وسادة واحدة وتسير في شارع واحد وتشمّ قرنفلة واحدة أن تزدهر، لا بدّ من مدّ القَدَم أكثر من سعتها برشاقة تجعلك في مكان آخر مختلف ومغاير لتشغل عينيك بكلّ ما يُفاجئ روحك وعقلك وذهنك، لا بدّ من المغامرة والجرأة في اقتحام غابات لا تعرف عنها شيئاً، واختراق سماوات لم تألفها من قبلُ، وحرث أراضٍ لا تشبه الأرض التي أمضيت عقوداً تعيد إنتاج تربتها وطينها فلا تحصل إلا على دمى تتشابه
في كلّ شيء.
السفر عزمٌ وبسالةٌ وتضحيةٌ وكشفٌ واكتشافٌ وتعزيزٌ لرفعة الأنا وخضرتها وشعريتها ومعرفيتها، فما تكتسبه من رحلاتك في المدن والبلدان والجغرافيا السعيدة هو من الخصب والكثافة والإشراق بمكان بحيث لا بديل لها مطلقاً، تُرى كيف بوسع قدميك أن تدوس على أرض جديدة على الورق، وكيف بوسع يديك أن تلمس مسرّات طالما حلمت بها على الورق، وكيف يمكن أن يُزهرَ لون الجمبد على الورق؟
دع الورق جانباً وارحل في فضاءات ما صنعه اللهُ لك من أمداء وعوالم وبحار ومحيطات وسهول وجبال ومدن خلابة ونساء حوريات آسرات لسنَ بحاجةٍ لملايين الصلوات كي تصلهنّ، فكلّما بلغتَ من رغبة السفر شأواً عرفتَ فوراً أنكّ بحاجةٍ لسفرٍ أكبر وأوسع وأعمق وأشرس في الأيام القادمات، لا تركن إلى حالة واحدة ومكان واحد ومسرّة واحدة وكتاب واحد وقصيدة واحدة ورواية واحدة ورؤية واحدة وأفق واحد وسماء واحدة وأرض واحدة وقول واحد، ابحث دائماً عن التعدّد والتنوّع والاختلاف والانتقال والاجتراح والعبور والتجاوز والولوج والاختراق في الأمكنة والأزمان والحالات والحكايات والرؤى والأحلام، فلا تشبه أرضٌ أخرى ولا امرأة سواها ولا هواء غيره ولا تجربة تجربة، للحافلة حين تنقلك من مكان إلى آخر مسرّاتها، وللقطار مسرّاته، وللطائرة ومطاراتها مسرّاتها، بكلّ ما تختزنه سلسلة الانتظارات من عمق وحساسيّة وخيال ونظر وتأمل تتناوب على أحاسيسك ومشاعرك بين الجهات والمسافات والآمال، فثّمة أشياء هي في انتظارك دائماً وأنت ترحل من مكان إلى آخر ومن فضاء إلى فضاء، ثق بما ينتظرك من غير معرفة سابقة ووعد سابق وسافر إليه ستجده حتماً وقد افترش لك سجادةً حمراء لا توصل إلا إليه.
أتذكّر في هذا المقام أنّ الناقدة “خالدة سعيد” أخبرتني ذات رسالة إليكترونية تصف شغف زوجها “أدونيس” بالسفر الدائم في رحلات متواصلة لا انقطاع فيها، وهو بهذا العمر المتقدّم –متّعه الله بشبابٍ دائم- تقول: ما أن يحطّ رحاله من سفرٍ حتى يستعدّ لسفر جديد... يا الله ما أجمل هذه الشهادة دليلاً على أنّ أدونيس الصانع الأمهر والمعلّم الفادح يدرك تمام الإدراك قيمة ما يفعل، وهو الذي لم يدع مكاناً في العالم لم يزره ويستمتع بما فيه ويأخذ منه ما يشاء، لذا كان الشاعر المتفرّد والمفكّر المجدّد المتجدّد الدائم بلا حساب للعمر والسنوات فهو أكبر من العدد مهما كثر وأوسع من القيمة مهما تكاثفت، يا الله كم أغبطك يا أدونيس على وعيك وبسالتك وعطائك وحماسك الذي ليس له نظير في العالم أجمع.
تسهم ثقافة السفر في تطوير عمل الحواس الخمس الأساسية فضلاً على الحواس الأخرى المضافة، فحاسة الشمّ بما تصل إليه من روائح أخرى غير ما تعوّد الأنف عليها وألِفها تعمل على مضاعفة طاقة الحاسّة في استجلاب قوى إبداعية جديدة لماكنة الإبداع، ومثلها حاسة البصر التي يتيح لها السفر أن تعاين صوراً مغايرة تنعكس على حركية التمثيل الصوريّ في آليّات الإبداع، وتتّسع حاسة السمع كي يصبح بمقدورها الإنصات لموجات صوتية نادرة لا يمكنها أن تحظى بها من غير نعمة السفر، وتقدّم حاسة اللمس فرصاً مضافة لطاقات الإبداع كي تتعرّف على مسرّات أخّاذة ومبتكرة لا يوفرها الهواء المُعاد، وتُطعّمُ حاسة الذوق بمهارات مكتظّة باللذائذ تسمح لوسائل الإبداع بتخصيب أدواتها نحو غزارة أعلى وتثمير أندر، وربّما تستجيب الحواس الأخرى –السادسة وما بعدها- للسفر على هذا النحو أكثر في بلوغ حالة إبداعية وإنسانية ومعرفية يستحيل أن تعوّض.