سوق "الإشهار" الجزائرية: احتكار وتمييز سلطوي وإفلاس للصحف

سوق "الإشهار" الجزائرية: احتكار وتمييز سلطوي وإفلاس للصحف

17 اغسطس 2016
النفط أثر على موارد الصحف الجزائرية(فاروق باطيش/ فرانس برس)
+ الخط -
بلغت قيمة سوق الإشهار (الإعلان) في الجزائر خلال السنة الماضية 200 مليون دولار، حسب تصريح وزير الاتصال حميد قرين. وتشير الإحصاءات إلى تضاعف قيمة هذه السوق خلال السنوات العشر الأخيرة، إذ قدرت قيمتها في عام 2006 بحوالي 80 مليون دولار.

ويثير احتكار الوكالة الوطنية للنشر والإشهار (وكالة رسمية) لما يقارب 65 في المائة من هذه السوق الكثير من الجدل، خصوصاً في الآونة الأخيرة بسبب الأزمة الكبيرة التي تمر بها وسائل إعلامية جزائرية. الأخيرة تتهم في كل مرة الوكالة بالتلاعب في توزيع الإشهار العمومي واستخدامه للضغط على الصحف والتضييق على حرية التعبير، في ظل غياب قانون خاص بالإشهار ينظم هذه السوق. 

تمييز يقتل الصحف
يسيطر على سوق الإشهار في الجزائر، متعاملو الهاتف النقال باعتبارهم أكبر المعلنين إلى
جانب قطاع السيارات الذي يعتبر أيضاً من أهم المعلنين في وسائل الإعلام الجزائرية وقطاع الأغذية، الذي يشهد تطوراً من حيث نسبة الإعلانات في التلفزيون والصحافة.

بينما تحتكر الوكالة الوطنية للنشر والإشهار، كل ما يتعلق بالإشهار العمومي أو الحكومي، كما يسميه بعضهم، فهو يمنع على جميع المؤسسات العمومية نشر الإشهار في الصحف من دون المرور عبر الوكالة التي تتكفل بتوزيع الإعلانات على المتعاملين. هذا التوزيع يخضع حسب أصحاب المؤسسات الإعلامية إلى مدى ولاء هذه المؤسسات للنظام.

يقول الأستاذ بالمعهد العالي لفنون العرض السمعي البصري والمخرج التلفزيوني حبيب بوخليفة لـ "العربي الجديد" إن "النظام يوظف الوكالة الوطنية للنشر والإشهار للتحكم في وسائل الإعلام، وعلى هذا الأساس فالموالون يحصلون على إشهار، أمّا المعارضون فيعاقبون، ورأينا جميعاً كيف تحاول السلطات القضاء على بعض الصحف، مما يوجب تحرير قطاع الإشهار وفتح باب المنافسة والإبداع".

ولعل أبرز مثال على هذه الضغوط، حرمان بعض الصحف من الإشهار العمومي منذ سنة 1998، بسبب سياستها التحريرية، ما أدى إلى اعتمادها بشكل كامل منذ ذلك الوقت على الإشهار من القطاع الخاص. وإن كانت بعض الصحف قد استمرت بفضل عدد القراء، فإن إحدى الصحف الأخرى لم تتمكن من الصمود، وأغلقت بعدما منع عنها الإشهار العمومي سنة 2014، من قبل الوكالة الوطنية للنشر والإشهار، بسبب المواقف السياسية لمديرها من الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
أما اليوم، تعرف أغلب الصحف الجزائرية أزمة موارد خانقة، أدت بالعديد منها إلى الإغلاق نهائياً، بما فيها تلك التي تدعم النظام، وذلك نتيجة تراجع مداخيل الوكالة الوطنية للنشر والإشهار بنسبة 50 في المائة، وفق وزير الاتصال حميد قرين، بسبب الأزمة المالية التي تعرفها البلاد منذ انخفاض سعر البترول.

في المقابل، لجأت صحف إلى مضاعفة سعر بيع النسخة الواحدة بعدما ظل السعر ثابتاً منذ سنة 1995، كطريقة لرفع مداخيل المبيعات، ومواجهة أزمة تراجع عائداتها الإشهارية، خاصة في ظل المنافسة القوية للقنوات التلفزيونية الجديدة التي تستقطب المعلنين في القطاع الخاص.


يوضح الأستاذ الجامعي والباحث في علوم الإعلام والاتصال في جامعة الجزائر الهادي كلكالي لـ "العربي الجديد" أن تراجع الإشهار بسبب سياسة التقشف التي تنتهجها البلاد سبّب إغلاق العديد من الصحف وتسريح العشرات من الصحافيين الذين يعيشون حالياً في بطالة مقنّعة.

ويؤكد أن "هذه السياسة أدت بالفعل إلى تراجع الصفقات الإشهارية التي تمنحها الوكالة الوطنية للنشر والإشهار، وحتى تلك التي تمنحها الشركات الخاصة لوسائل الإعلام، وذلك ما أثر فعلاً على الاستقرار المهني للصحف والصحافيين".

وتشهد الساحة الإعلامية في الجزائر إغلاق العشرات من الصحف، على غرار صحيفة "الأحداث" و"صوت الغرب"، وكذلك "لافوا دولوراني" الناطقة بالفرنسية، بعد 17 سنة من الحضور في الساحة الإعلامية. ويرجح كلكالي احتمال إغلاق مؤسسات صحافية كثيرة، بسبب هذا الوضع الفوضوي لسوق الإشهار، لافتاً إلى أن مؤشرات ذلك جلية الآن.

ويقول الباحث في علوم الإعلام والاتصال عبد الغاني سعد جاب الله، لـ "العربي الجديد" إن الحديث عن الإشهار يقود حتماً للحديث عن الاحتكار الذي تمارسه الوكالة الوطنية للنشر والإشهار، موضحاً: "يجب أن نتساءل من يقف خلفها ولصالح من توزع الإشهار؟ ولماذا تملك بعض الصحف مساحة إشهارية أكبر من المسموح بها قانوناً، بينما صحف أخرى لم تحلم بالوصول إلى هذه المساحة أصلاً؟".

فوضى ووعود لم تتحقق
وكانت صحيفتان محليتان قد اتهمتا وزير الاتصال الحالي بممارسة ضغوط على المعلنين من القطاع الخاص لسحب إشهارهم من الصحيفتين، نظراً لكونهما معارضتين، مقابل حصولهما على تسهيلات وامتيازات من وزارة المالية، وهو العرض الذي يحمل تهديداً، غير مباشر، حسب إحدى الصحف، مفاده بأنكم إن لم تطبقوا طلبنا، فسيكون مصيركم التصحيح الضريبي. وهو ما يعكس حجم الفوضى التي تعم القطاع.
الأمر الذي اعترف به الوزير المعني الذي أكد منذ سنتين خلال الملتقى الثامن الأورو مغاربي للاتصال والإشهار، أن سوق الإشهار تتخبط في فوضى كبيرة، وأن قانون الإشهار جاهز لتنظيم القطاع. وهي الوعود التي يطلقها كل وزير اتصال جديد دون أن يتحقق منها شيء، فقد سبق واعترف الوزير السابق عبد القادر مساهل بوجود هذه الفوضى في مجال الإشهار، ووعد بالإفراج عن القانون الذي لم يصدر أبداً.

بدوره، يرى الصحافي الجزائري والباحث في العلوم السياسية جلال مناد لـ "العربي الجديد"، أن سوق الإشهار في الجزائر غير منظمة بالمطلق، وأنها تغرق منذ سنوات في فوضى عارمة، وهي نتاج الفساد الذي يميز النسق العام في البلاد، موضحاً: "لقد اتضح بعد سنوات من احتكار السلطات لملف الإشهار عبر المؤسسة الحكومية للنشر والتوزيع والإشهار أن المنظومة الإعلامية في البلد مأزومة وصار الإصلاح أقرب إلى المستحيلات".


ويرجح مناد أن هذا الاحتكار من قبل الحكومة كان يمكن أن تكون له انعكاسات إيجابية على قطاع الإعلام بشكل عام، ما دام الإشهار جزءاً لا يتجزأ منه، مشيراً إلى أن الانزلاق الحاصل يتمثل في "الفراغ المؤسساتي وسطوة مجموعة من المتنفذين على السوق الإشهارية، ما أنتج منظومة من الفساد في المجال الإعلامي فكانت نتائجه ضياع موارد مالية على خزينة الدولة".

وفي الوقت الذي يعلق فيه الكثيرون آمالهم على قانون الإشهار لإنهاء هذه الفوضى وتنظيم القطاع، يرى آخرون أن الأزمة أعمق من ذلك بكثير. الصحافي عبد القادر دحماني، يرجع حالة الفوضى العارمة في مجال الإشهار إلى الغموض الذي يتميز به القطاع الاقتصادي ككل.

ويوضح لـ "العربي الجديد" أن "قانون الإشهار لن يغير شيئاً، لأن وجود القوانين أو غيابها لا معنى له في ظل هذه الأوضاع الضبابية التي تعرفها البلاد". ويضيف: "المستثمرون والفاعلون في أي مجال بما في ذلك الإشهار يخضعون لسلطة الإدارة في الجزائر التي تمارس عليهم ضغوطاً".

كذلك، يلفت كلكالي إلى أن سوق الإشهار مرتبطة بسوق الإعلام، وكلاهما يعيش حالة من الفوضى في ظل غياب تشريعات منظمة لهما. ويعتبر أن إجراءات التقشف الجديدة التي أقرتها الحكومة في قانون المالية الجديد 2016، نتيجة لتراجع أسعار النفط في السوق الدولية وما رافقها من تراجع لأداء سوق الإشهار في الجزائر، قد أثرت بشكل فعلي على مشروع قانون الإشهار الجديد. ويضيف: "المشروع لا يملك الأولوية بالنسبة للحكومة بحكم سياسة التقشف، سيبقى الوضع كما هو إلى غاية انتهاء تطبيق سياسة التقشف المرتبط أساساً بعودة أسعار النفط إلى نصابها الماضي وهذا يستدعي الانتظار".
أمّا مناد فيشرح أن "فوضى الإشهار قتلت المبادرات وأنتجت الفاسدين والمفسدين"، نافياً أن يكون للحكومة إرادة سياسية في إضفاء الشفافية على قطاع الإشهار، رغم جهود وزارة الاتصال التي تتجه شيئاً فشيئاً نحو إصلاح المنظومة، "هذه الجهود تبقى بحاجة ماسة إلى إرادة فوقية تأمر بإصلاح جذري للقطاع وهذا لن يتأتى في اعتقادي إلا بفتح ملفات المستثمرين في المجال الإعلامي عبر آلية: من أين لك هذا؟".

وعن قانون الإعلام الجديد الذي يستثني قطاع الإشهار، يقول الباحث في الحقوق، وأستاذ قانون الإعلام في جامعة مستغانم عبد الغاني بن عيرد لـ "العربي الجديد" إن "قانون الإعلام ركّز على العموميات وأيضاً على الجرائم التي ترتكب خلال ممارسة نشاط الإعلام وغيره، بانتظار
صدور قوانين خاصة لتكمله. يجب النظر في كل المجالات المتعلقة بنشاط الإعلام بعد صدور قانون الإعلام، وبعد التعديل الأخير للدستور أيضاً، لتكون القوانين التي تنظم كل مجال مواكبة للعصرنة، والتوجه الذي اتخذته الدولة لتكريس حرية التعبير".

من جهته، يقول الكاتب الصحافي عبد الحكيم السابع، لـ "العربي الجديد" إن سوق الإشهار في الجزائر تعرف ''فوضى كبيرة'' وعدم وجود ضوابط محددة في توزيعه على حوالي 150 صحيفة يومية، بعضها تعرض للإفلاس والإغلاق بسبب تراجع مواردها من الإشهار وعدم قدرتها على الاستمرار في السوق بسبب الأزمة الاقتصادية الأخيرة في الجزائر.

وهو ما يستدعي، حسبه، ضبط سوق الإشهار وتنظيمها. ويشير إلى "عمل أكثر من وزير على تنظيم هذه السوق وتم إعداد قانون للإشهار لكن الإفراج عنه لم يتم إلى الآن، ما زاد الفوضى في القطاع".

المساهمون